781) التفسیر الجمالی للقرآن الکریم/ 3
3-2. التفسير الجمالي المنهجی
إن ما قيل آنفاً عن التفاسیر البلاغية والجمالية هو في اتجاه التفسير الجمالي، ولكن هناك بعدا آخر مهم یظهر في أسلوب هذه التفاسیر وله دور مهم جدا في فهم المعنى.
والمزید من التوضیح: أن التفسير الجمالي في مجال المنهج، بالإضافة إلى القرائن المعتادة في عملیة التفسير مثل السياق والظروف السائده أثناء النزول وغيرها، يولي اهتماما خاصا لقرینة البلاغة والعناصر الجمالية للنص والاستفادة منها في اكتشاف معنى الآیات؛ بمعنى آخر: بما أن القرآن نزل على أساس البلاغة ومن حيث الأدب والبلاغة فإنه يتفوّق على كل الكلمات بشكل غير عادي، فإن المفسر دائما ما يعزو النص إلى التفوق الأدبي والبلاغي ويجعله قرینة فهمه، (وبالطبع قد نتمكن من رفعه كأساس أيضاً، أي أن قوة البلاغة القرآنية ونطاقها تلقي بظلالها على القرآن كله وتشمل جميع الآيات) . ونتيجة لذلك، إذا احتمل معنيان في تفسير الآية، قبل المعنى الذي يتوافق مع المظهر الجمالي و البلاغی، والمعنى الذي لا يسير في طريق البلاغة العليا، ولا يتوافق مع المظهر الجمالي للآية لایقبل. والحقيقة أن نظرة المفسر في الجماليات هي أسلوب من أساليب البلاغة والجماليات، ووفقا للمستوى الأدبي للقرآن الذي هو فوق بلاغة الجن والإنس، فإنه يدرس إمكانيات وتقاليد التفسير والتأويل على أساس هذا الموقف. وهذه النظرة للتفسير الجمالي مهمة جدًا، لدرجة أنه يمكن تحديد المجال الأول (الاتجاه) في خدمة هذا المجال؛ لأن الله تعالى الحكيم، الذي أنزل القرآن في صورة معجزة التعبير والتأثير، قد نسق استخدام صنائع والمصفوفات البلاغية مع غرضه، واستخدم كل القدرات البلاغية والجمالية لإيصال المعاني والمفاهيم. وإدراكًا لذلك يحاول المفسّر الوصول إلى المعنى الحقيقي لله تعالى من خلال أولًا: معرفة العناصر الجمالية والبلاغية، وثانيًا: اكتشاف دورها في إيصال المعاني.
وبالإضافة إلى تطبيق هذا النوع من التفسير الجمالي في تقليل الاحتمالات التفسيریة واكتشاف المعنى الصحيح، فهو یستخدم ایضاً فی نقد روایات التفسيریة و بعض الشبهات، واكتشاف القراءة الصحيحة وأشياء أخرى.
يلاحظ:
أ) القرائن الجمالية والبلاغية ليست مشروطة بمستوى الإعجاز، بل يتخذ المستوى البلاغي والجمالي الرفيع والممتاز معياراً؛ ولذلك فإن هذا النوع من التفسیر الجمالی صحيح حتى بالنسبة لأولئك الذين لا یعتقدون ببلاغة القرآن بشكل معجز رغم عددهم القلیل جداً.
ب) تشارك هذه القرینة بشكل تامّ في انعقاد الظاهر للکلام؛ ولذلك فإن نظریة تعدد المعاني للفظ الواحد في القرآن (البولیزمی) تعتمد على مراعاته، و ایضاً عرض الأحاديث علی القرآن يعتمد على انتعاد الظهور للقرآن بملاحظتها.
وتوضح الأمثلة التالية كل بعد من التطبيقات المختلفة لهذا النوع من التفسير:
ب/1) القراءات
المثال الاول: في الأحاديث، تم تصحيح تحريف "السلام على الياسين" في الآية 130 من سورة الصافات إلى "السلام على آل یاسین". (راجع: قواعد تفسير قرآن، علي أكبر بابائي، ص62-66)
وقد تم الاستشهاد في رفض هذه الروایات بعدة حجج، أحدها له منهج جمالي:
سياق القرآن قوي جداً، وسبب أهميته أنه إذا كان من المفترض أن يكون نص القرآن هو "السلام على آل ياسين"، فإن السياق سوف ينهار تماماً، وجملة وهو في نهاية المطاف بلاغة، لن يفقد قيمته البلاغية فحسب، بل سيُفاجأ ويُسخر منه أو يُواجه بالغموض فيتحول إلى شك أكبر. كما أن دراسة سياق الآيات وأدبها قبل الآيات المتعلقة بالنبي إلياس تؤكد ذلك. ونقرأ العبارة القرآنية في حالتين:
- «وَ لَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَ نَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَ جَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)»
- «وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) ... إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110)»
- «وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَ هارُونَ (114) وَ نَجَّيْناهُما وَ قَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَ نَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116) وَ آتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَ هَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَ تَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَ هارُونَ (120) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)»
- «وَ إِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ لا تَتَّقُونَ (124) أَ تَدْعُونَ بَعْلاً وَ تَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَ رَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْياسِينَ (130) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)»
وإذا كان مثل هذا السياق بهذه الدرجة من الوضوح والقوة لا یتدخل فی تشکیل الظهور أو لايستطيع أن یقیّمَ الروایات اتباعاً لروایات العرض، فاذاً كيف يمكن تمسک بروایات العرض علی القرآن؟
كما أن افتراض صحة هذا الحديث فيه ازدراء لإلیاس النبي وأهل البيت -علیهم السلام- کلهم؛ لأنه من ناحيةٍ لم تسلم علیه فی الاخیر من قصته کما سلم للأنبياء الآخرين المذكورين، ومن ناحية أخرى وضع أهل البيت ع تحت نبي غير اولوالعزم، وكان المتوقع أنه إذا كانت هناك کلام من أهل البيت ع كغيرهم من الأنبياء الذين ذكرت أسماؤهم، فينبغي أن يذكر أولاً قصتهم و ثانیاً یختم الکلام باالسلام عليهم. وهذا ایضاً يثير الشك في أن خطاب "السلام على إلياس فی العالمین" وكذلك ذکر قصة اهل البیت ع فی بدایة الکلام عنهم، قد حذفت من السورة في وسط الآيات؟ شك لا يعتقده أحد من أنصار التحريف، ولا يمكن طرحه.
المثال الثانی: في الآية 222 من سورة البقرة وردت قراءتان: «یَطهُرنَ» بالطاء الصامتة، و«یَطَّهَّرنَ» بالطاء المشددة والمفتوحة. و اما القراءة الموجودة هي الطاء الصامتة. «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ۖ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ ۖ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ» (البقرة، 222)
ولقد فسر بعض المفسرين «يَطْهُرْنَ» و «تَطَهَّرْنَ» بعمنی واحد، وهذا غير صحيح بلا شك.
ويبين التحليل البلاغي والجمالي للآية أن القراءة الموجودة صحيحة والقراءة المنافسة غير مقبولة. مزيد من التوضيح:
«يَطْهُرْنَ» أي يطهر من الحيض، و«تَطَهَّرْنَ» فعل ماضي من باب التفعّل الذی یدل علی المطاوعة؛ يعني تطهروا إما بالغسل أو بالاغتسال، وتفسيره على أهل البيت ع. النقطة المهمة هي أنه إذا كانت الآية واضحة یتم لها الظهور، بحسب احاديث العرض، فستكون الآیه هی المعيار في تقييم الأحاديث، أما إذا كانت غامضة فسنزيل الغموض بمساعدة الأحاديث.
والآن نسأل هل الآية غامضة؟
وجاء في تفسیر الامثل: «و على هذا فالآية لا تخلو من إبهام، و لكن مع الالتفات إلى أنّ الجملة الثانية تفسير للجملة الاولى و نتيجة لها (و لهذا اعطفت بفاء التفريع) فالظاهر أنّ (تطهّرن) أيضا بمعنى الطهارة من دم الحيض، و بذلك تجوز المقاربة الجنسيّة بمجرّد الطّهارة من العادة الشهريّة» (الأمثل، ج2، ص 132)
والظاهر أنه خلافاً لما يقوله هذا التفسير، ليس هناك غموض ومعناها واضح تماماً؛ لأن القرآن يأمرك باجتناب النساء حتى یطهرن من الحيض، وبعد أن یطهرن عليك أن تستمر في اجتنابهن حتى تطهّرن بالغُسل أو الغَسل علی ما بینه الروایات. ولو فُرض على القراءة الثانية (یَطَّهَرنَ)، کان معناه لزوم التطهیر، وفي هذه الحالة ينشأ السؤال والشك فی أنه قبل انتهاء مدة العادة وبعد انقطاع الدم و التطهّر بالغَسل، يجب الاجتناب من النساء أو لا یجب؟، لكن القراءة الموجودة قد زالت هذا الشبهة. لكن هذا القول في التفسير الامثل بأن «فالظاهر أنّ "تطهّرن" أيضا بمعنى الطهارة من دم الحيض» ليس مفهومًا وصحيحًا؛ فكيف نحكم أن الله تعالى قد استخدم كلمتين بصيغتين مختلفتين فی فقرة واحدة ولكن بنفس المعنى في القرآن مع ما فیه من الدقة الأدبية والبلاغية الفائقة؟!، ولذلك فإن معنى الآية واضح: عليكم باجتناب النساء حتى تنتهي العادة وأيضا بعد الطهر (و هو الغُسل علی ما جاء فی الأحاديث). ويبين فاء التفریع أيضاً أن التطهیر بالغُسل يكون بعد انتهاء مدة العادة.
فإذا فسرنا التطهیر بالغُسل - كما دلت علیه أغلب الأحاديث - وجب اجتناب النساء حتى نهاية الغُسل، ولا يجوز قبل الغُسل، وعلى كل حال حمل «تطهّرن» على الاستحباب دون الاعتماد على الأحاديث، مخالف لقواعد اللغة العربية وضد البلاغة و المنطوق للآیة، والأحاديث التفسیریة مفیدة عندما لا تتعارض مع القرآن.
ب/2) الروایات
وفي المثال 2 المذكور آنفاً، بالقرینة الجمالي والبلاغي، تمكنا من إقامة إحدى القراءتين و رفض الأخرى، وبناء على ذلك وصلنا إلى ظهور واضح للآية. والآن الآية بظاهرها هي معيارة لتقییم الأحاديث لا العکس؛ بأن نأخذ الأحاديث فی خدمة التفسیر و فهمها؛ والنتيجة هي عدم قبول الروايات التي لا تتفق و لا تتلائم مع المظهر الجمالي والبلاغي للآية. ويمكن الاطلاع على أحاديث الباب في وسائل الشیعة، كتاب الطهارة، أبواب الحيض. وفي هذه الروايات اختلافات من أبعاد مختلفة؛ لكن أغلبهم اقترح الحرمة قبل الغُسل، أو الکراهة قبل الغُسل، أو الاستحباب بعد الغسل، وبما أن ظاهر الآية واضح تماما وليس فيه غموض، فلحل المشكلة لا بد من عرض الأحاديث علی الآیه، والتي يترتب عليه – علی ما یبدو- الحرمة قبل الغُسل.
والنتيجة أن البلاغة في الآية، كالمثال، نجحت في المساعدة على التفسير والفهم الدقيق للنص، واستطاعت أن تعلن قراءة مخالفة للقراءة الموجودة مرفوضة.
مثال آخر
وجاءت قصة هابيل وقابيل في الآيات 27-32 من سورة المائدة:
«وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَ ذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَ عَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)»
وبحسب الرأي المشهور الذي نشأ من بعض الروايات، كان من المفترض أن يقدم هابيل وقابيل هدية لله، فقد قدم هابيل هدية ثمينة، لكن قابيل، رغم أنه كان يملك القوة، لم يقدم شيئًا ذا قيمة. والنتيجة أن الله قبل هدية هابيل وهي خروف سمين، ولم يقبل هدية قايين وهي قمح رديء الجودة.
فغضب قابیل بشدة وحسد على هابيل وهدده بالقتل، لكن هابيل تحدث عن ضبط النفس ردًا على ذلك وذكر سبب عدم قبول ذبيحة قابیل بأنه "قلة التقوى"؛ أي لأنك لست شخصاً تقياً، لم يقبل الله منک.
إنّ ما ذکرنا هو خلاصة القصة بناء على الروايات. ولكن هذه الأحاديث صحيحة إذا لم تتعارض مع الآيات المرتبطة بها. ولذلك، لتقييم الروايات لا بد من فهم واضح للآيات:
1. في الآيات لم يكن سبب الهدية ونوعها مهمّاً ولم يُذكرا؛ وكما أن اسمي الأخوين لم يكن مهمّاً، فقد تمّ رسم أحدهما بأنّه "أخ صاحب الإيمان والتقوى والحكيم والفهيم" والآخر بأنّه"أخ فاسق ومجرم".
2. أن سبب قبول الهدیة وعدم قبولها هو "التقوى"؛ أي لأن هابیل كان تقيًا قُبلت هديته، ولأن قابیل كان إنسانًا غير متقی وخاطئًا لم تقبل هديته، ولا علاقة لها بكون الهبة جيدة أم سيئة (بناءً على الظاهر من الآية).
وكما هو واضح، حتى الآن هناك تعارض بين الآيات والروايات في سبب عدم القبول؛ لأن السبب المذكور في الآية هی عدم تقواه والسبب المذکور في الروايات هو بخله. وإذا أردنا أن نجمع بين الروايات وظاهر الآية فلا بد أن نقول: إن قابيل لم يكن تقياً في تقديم الهدية؛ وهذا يعني أنه على الرغم من أنه كان بإمكانه أن يقدم شيئًا صالحًا، لأنه كان غير متقی ولم يكن لله لديه قیمة، فقد قدم شيئًا عديم القيمة أو قليل القيمة؛ لكن يجب أن نتساءل ما حجة هذا التفسیر للتقوَی و ما العلاقة بين "التقوَی" و"البخل"، وهل يحتمل بلاغة القرآن تطبيق "الفجور" على البخل؟
ونذكركم أن قصة آدم ع هي معركة من خيالات الحالمین والوضاعین التی سمیت «اسرائلیات»، وقد توافرت عنها الكثير من الروايات المكذوبة. عدا عن هذا فإن الفرق بين عطية هابيل وقابیل ورفض عطية قابیل لقلة قيمتها هو بحسب نقل التوراة.
ولتوضيح الأمر نعود إلى الآية ونقرأها مرة أخرى:
لم تقبل هدية قابیل، فغضب قابیل غضبًا شديدًا وغار وهدد بقتل أخيه، وتستمر القصة. ويبدو أن شدة الغضب والغيرة هذه لا يمكن أن تُنشأ من عدم قبول الهدية، والمتهم الرئيسي في تدني قيمتها هو قابیل نفسه، ولكن الصورة الأصح، والتي هي أيضاً على حسب ظاهر الآيات، هي أن كلا من الأخوين لقد قدم بهدیة مثل اخیة من جهة القیمة سواء کان من نوع واحد أو مختلفة، و لما لم تقبل هدیته ؛غضب وغار؛ أي أن قابیل، بحسب فهمه، كان یتوقّع قبول هدیتة، ولمّا لم يُقبل، غضب؛ لأنه لم یتوجه الی شرطه المعنویة (و هو لزوم التقوَی فیه)، وإلا لكان قد لوم نفسه بدلاً من الله، أو كان هابيل قد أوضح له ذلك، بينما كان يشير فقط إلى الفجور و عدم التقوَی.
ففي النهاية، لا يظهر في الآية أن قابیل لام نفسه أو أخاه، بل يبدو أنه غضب من الله لأنه قبل هدیة أخيه ولم يقبلها منه عندما كان يتوقع قبولهما لانهما فی قیمة واحدة. لذلك فإن قتل الأخ لم يكن إلا حسدًا وانتقامًا من الله. فالله الذي قبل هدية هابيل ولم يقبل هديته ظاهريا، لم يرى سببا وجيها لهذا الاختلاف في القبول.
وقد ورد في رواية أن إبليس قال أو ألهم قابيل أن أقتل أخيك؛ لأنك إذا لم تقتله، فإن أطفاله في المستقبل سوف يفتخرون بأبنائك لقبول هديته ورفض هديتك، وهذا سوف يسبب ذل أبنائک. وإذا قبلنا هذه الرواية فمعناها أن قتل الأخ لم يكن انتقاما من الله، وإنما كان مجرد حسد ودرء لمصيبة أولاده في المستقبل، و في هذه الحالة یرتفع جزء من الاستبعاد الذی مضی آنفاً (أی إذا كان قابیل نفسه مذنبًا بتقديم هدية منخفضة القيمة فقد فهم هذا المعنى، فمن الطبيعي أنه لم يعتبر الله أو أخيه هو المذنب ولم يذهب إلى القتل بل فكر في إعداد هدية أكبر وأفضل إن أمكن) لكن الجزء الآخر لا يزال قائما (أی كلام هابيل حول سبب عدم القبول و هو ليس انخفاض قيمة الهدية بل عدم تقوی الله).
لكن ظهور الآيات لا علاقة له بهذه الرواية (القتل لمنع إذلال الأطفال) وينص ببساطة على أنّ مجرد قبول الهدية وعدم قبولها هو سبب الغيرة والتهديد بالقتل.
بالإضافة إلى ذلك کله، من قرار القتل يمكن فهم أهمية هذا الحدث (أي تقديم هدية لله) وحساسيته.
وبشكل عام، أقل المشاكل تتعلق بالفهم الذي يتم الحصول عليه دون روايات؛ أو بمعنى آخر، هناك نوع من التعارض بين الآيات والروايات المتعلقة بهذه القصة، والتي تعبر عن قيمة الهدية وأيضا سبب القتل، وهو أمر ليس من السهل حله وتبريره؛ لأن تقديم هدية قليلة القيمة يتعلق بالبخل ولا علاقة له بالتقوى، وليس من السهل اشتمالها للتقوى.
وكما هو واضح، فإن ظاهر الآية المبنية على البلاغة هو سبب عدم قبول الروايات المذكورة.
ب/3) الاحتمالات التفسيرية
وفي قصة موسى (ع) عندما أخرجه الفراعنة من الماء، اختلف المفسرون بين أن تأتيه أمه لترضعه أو يترك للأم ليكبر في حجرها. يعني الفرق بين البقاء في القصر أو الخروج منه. وقد نفى بعض المفسرين وجود أدلة على كل من الاحتمالين المذكورين (وجود موسى مع أمه أو حركة أمه إلى القصر في فترات معينة)، ولكن هناك العديد من الدلائل الجمالية (اللفظية) والعرفية (غير اللفظية) تدل على أحد الاحتمالين.
القرینة الجمالية الأولی هی «فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ» والتی تتحدث عن عودة الطفل إلى أمه، ولو كان العكس لكان جميلا الإبلاغ عن وصول الأم إلى الطفل وليس طريقة بديلة.
أما القرینة الجمالیة الثانیة في عبارة «عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ» (القصص، 12)؛ لأنها تتکلم عن "أهل بيت" ولا مربية.
القرینة الجمالية الثالثة هي خاتمة الإیغالیة (كلمة زائدة بعد خاتمة كلام فيها نقطة مفيدة) فی هذه الآية التی تؤكد على دور "أهل البيت": «وَ هُمْ لَهُ ناصِحُونَ» وتظهر أنّ موسى نشأ في حضن أمه فی بیتها أثناء الطفولة، وليس في قصر فرعون.
والدليل غير اللفظي والعرفي على هذا الاحتمال هو صعوبة تواجد المربية بشكل متكرر وفي غير وقته على مدار الساعة وعدم تقليدية فصل المربية عن الأسرة؛ لأن المربية بالإضافة إلى هذا الطفل يجب عليها أيضًا أن ترضع طفلها.
مثال آخر
وفي الآية «إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها» عبارة «فما فوقها» علی ما جاء فی تفسیر الامثل تشمل الحيوانات الصغيرة والكبيرة کلیهما:
«و ما المقصود من "فَما فَوْقَها" للمفسرين في هذه رأيان: الأوّل: «فوقها» في الصغر، لأن المقام مقام بيان صغر المثال. و هذا مستعمل في الحوار اليومي، نسمع مثلا رجل يقول لآخر: ألا تستحي أن تبذل كل هذا الجهد من أجل دينار واحد؟! فيجيب الآخر: لا، بل أكثر من ذلك أنا مستعد لأبذل هذا الجهد من أجل نصف دينار! فالزيادة هنا في الصغر.
الثّاني: «فوقها» في الكبر. أي إن اللّه يضرب الأمثال بالصغير و بالكبير، حسب مقتضى الحال.
لكن الرأي الأوّل يبدو أنسب.» (الأمثل، ج1، ص 136)
مراجعة و نقاش
وفيما يتعلق باالاحتمالات التفسيرية لـ«فما فوقها» فيبدو أن احتمال كونها أصغر من البعوضة غير مقبول من الناحية الجمالية، لا أنها ضعيفة؛ لأنه إذا كان الأمر كذلك، فلا بد من استخدام عبارة «فاما دونها» أو «فما تحتها» واستخدام «فوق» يكشف عن نوع من التناقض الداخلي المخالف للبلاغة؛ مثل التركيبات المشهورة "على الأقل" (= ليس أقل) بمعنى الحد الأدنى، و"چرکتاب" بالفارسیة (= يظهر القيح) بمعنى إخفاء القيح.
3-3. التفسير الجمالي الهيكلي/ البنیوی
وهذه النظرة الجمالية لآيات القرآن تسمى أيضاً بالتفسير البنيوي، ومن الأمثلة الواضحة على هذا التفسير "التفسير البنائي للقرآن الكريم" بقلم محمود البستاني و "تفسیر ساختاری قرآن کریم [تفسير القرآن الكريم البنيوي]" لمحمد خامهگر، و غیرهما. أما بالنسبة لقصص القرآن وفي مثل هذا النوع من التفسير الجمالي فيتم بحث وجود قصة أو عبارة منها أو وجود موضوع في السورة بالنسبة لموضوعات السورة الأخرى وأهدافها و غاياتها؛ على سبيل المثال، قصة النبي موسى (ع) مذكورة في مقاطع قصيرة أو طويلة في العديد من السور، ولكن في أي موضع ورد في أي سورة، وبأي نغمة، وعلى أي عنصر تم التركيز عليه، وهل وردت بشكل مختصر أم مفصل، و مسائل أخرى ويعتمد في هذا على مضمون السورة وأهدافها ومقاصدها، وعلى الانسجام والتناسب بين المواقف الأخرى المطروحة في تلك السورة. ويمكن رؤية مثال واضح في الآيات المتعلقة بالنبي موسى في سورة يونس و سورة المؤمنون:
یونس: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَ هارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قالَ مُوسى أَ تَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَ سِحْرٌ هذا وَ لا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قالُوا أَ جِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَ تَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَ ما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78)...
مؤمنون: «ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَ جَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44) ُثمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَ أَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ (45) إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَ كانُوا قَوْماً عالِينَ (46) فَقالُوا أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَ قَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ. (49)
وفي هاتين السورتين يتعلق الأمر بإرسال الأنبياء، والموقف يتناسب مع تفصيل الأنبياء وكثرتهم، وبعد هذا ليس هناك تعليق على تفصيل أحداثهم وأحداث قومهم؛ ومن هنا يمكن ملاحظة:
أولاً: في كلتا السورتين ذكر اسم النبی موسى وأخيه هارون (عليهما السلام) بشكل واضح، بينما في بعض سور القرآن الكريم موقف التعبير عن مبدأ الرسالة، وليس الأشخاص. ولم يذكر إلا اسم موسى (ع) الذي كان محور ابلاغ الدين والرسالة، واسم هارون الذي كان وزيره وزميله، لم يتم ذكرها؛ علی سبیل المثال: فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى (القصص، 36)؛ ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى (اعراف، 103)؛ وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى (هود، 96)؛ وَ فِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ (الذاریات، 38)؛ اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (النازعات، 17).
ثانيًا: تم ذكر العبارة الوحيدة التي تشير إلى القضية الأساسية وهي الدعوة والرسالة، ولم يتم ذكر مسائل أخرى كثيرة من قصة النبي موسى، والتي يتم وصفها أحيانًا بالتفصيل في سور أخرى.
ثالثاً: في سورة المؤمنون حسب سياق السورة، وردت قصة النبي موسى بإيجاز شديد وفي حوالي ثلاثة أسطر وأربع آيات قصيرة، وفي سورة يونس وردت القصة كاملة باختصار وفي 17 آية قصيرة. ولم يتم الاهتمام بتفاصيل أخرى، وذلك على الرغم من أنه في بعض السور تم وصف قصة سيدنا موسى (ع) بالتفصيل في عشرات الآيات وتم تناولها بتفصيل كبير.
وفيما يتعلق بالتناسب داخل السورة، فيمكن رؤية مثال واضح في سورة البقرة وغيرها من السور المدنية التي تحتوي على فقرات من قصة النبي موسى (ع) وبني إسرائيل. وفي هذه السور، وخاصة سورة البقرة، المنهج في قصة النبي موسى (ع) هو الأحداث والقضايا الاجتماعية، والتعبير عن الأخلاق والسلوك، ودراسة أفكار بني إسرائيل، ومثل هذا المنهج مع مضمون هذه السور من جهة، وأحداث وأحداث المجتمع الإسلامي في ذلك اليوم - وسنتناوله بمزيد من التفصيل - متطابق تمامًا؛ أما بالنسبة لقصة موسى ع، ففي السور المكية، فإن المواضيع التوحيدية والوعظية وخلاص موسى ع وانتصاره على فرعون، هي محور الاهتمام، وفي السور المدنية، وخاصة سورة البقرة، المواضيع الاجتماعية هي المحور الرئيسي للخطاب، وبالمثل، العديد من المواضيع الأخرى
و من جانب آخر أنّ المهم من التفسير الجمالي داخل السورة أو البنيوية هو الاهتمام بالانتقال الفني من موضوع إلى موضوع آخر داخل السورة الواحدة بحيث لا يشعر القارئ بأن الكلمات مجزأة ومرتبطة بالتنوع من المواضيع المطروحة، بل یحسب الکلام مع تنوع الموضوعات من حيث الصوتيات وکیفیة الاتصال، جميل ومتماسک تمامًا، على الرغم من أن فهم البنية المستمرة للسورة يتطلب المزيد من التأمل؛ بمعنى آخر، يمكن اعتبار هذا النوع من التفسير مبنيًا على نموذج "الكلام يجر الكلام" ولكنه يتماشى مع الهدف العام للسورة و مبنی علی الحکمة، وهو مظهر آخر من مظاهر تناسب السورة. على سبيل المثال، إذا كان الهدف الرئيسي للسورة هو التربية الاجتماعية، فإن الكلمات والموضوعات المرتبطة بهذا الهدف بشكل أو بآخر يمكن رفعها بنمط "الكلام يجر الكلام" ونقوم بتقييم محتويات السورة على أساس على الهدف الرئيسي وليس منفردا منه.
3-4. التفسير الجمالي بین السور
إن التناسب الجمالي بين السور يمكن اعتباره سطحاً إعجازياً حقاً! ونوضح هذا الأمر من خلال التركيز على قصة النبي موسى و تفاصيل الأمر یأتی فی کتاب «التفسیر الجمالی لقصص القرآن، قصة النبی موسی ع» بعون الله و توفیقاته.
وكما هو واضح فإن الله تعالى قد قسم قصة النبي موسى (ع) إلى حلقات وفصول وأقسام وعرضها في السوَر المختلفة المكية والمدنية حسب أهداف السورة ومقاصدها وموضوعاتها والأحداث الجارية للمجتمع الإسلامي. والأحداث الخارجية ولكن هذا التناسب لاينتهي هنا؛ أي أنه بالإضافة إلى التوافق و التناسب داخل السورة وخارج السورة، فإنه يشتمل أيضًا على تناسب آخر وهو "التناسب بين السور". يمكن التحقق من التناسب بين السور وتتبعه على مستويين؛ المستوی الاول تكمل الفقرات اللغز مثل الحلقات المنطقية والمنتظمة؛ أي أن كل عبارة تحمل جزءاً من الصورة الكبيرة ولها دور في استكمال هذه الصورة. المستوى الآخر هو الإدارة المنتظمة وغير العادية للفترات المتكررة؛ وهذا يعني أنه في بعض الأحيان تتكرر قطعة من الصورة الكبيرة ولغز بطرق مختلفة في عدة سور، ويبدو أن القطعة نفسها مقسمة إلى أجزاء؛ على سبيل المثال، مجيء النبي موسى (ع) إلى جبل الطور والتحدث مع الله وإرساله للمهمة وتكليفه بالدعوة إلى الدين القويم ومحاربة الأفكار والتقاليد والسلوكيات الباطلة، وكذلك دخول قصر فرعون والمجادلة معه وعرض المعجزات، وقد ورد في سور مختلفة بطرق مختلفة، مما استهزأ به الجهال أحيانا واتهم بالتكرار، بينما:
أولاً: إن تكرار هذه الآيات كان ضرورة حتمية لغرض السورة ودعم موضوعاتها وأهدافها مثل العناوين المتكررة لموضوع أو مرجع ضمن مقالة موسوعیة.
بمعنى آخر، أحيانًا تنقل فقرة في سورة مفهومًا للجمهور حسب موضوع وسياق آياتها، ونفس الفقرة في سورة أخرى تنقل مفهومًا آخر بسبب تغير الموضوع والسياق؛ على سبيل المثال، شخص ما لديه مشكلة وفي هذه الأثناء تتلقى أمه طلباً منه فيتخلى الابن عن حل المشكلة ويستجيب لطلب الأم، و من جانب آخر تدعو الأم حل مشكلته وأخيراً تم حل مشکلته بأعجوبة. فحکایة هذه القصة مرة لبیان سرعة إجابة دعاء الأم ومرة أخرى لبیان طریقة تعامل الابناء مع والديهم، ومرة ثالثة لبیان طرق حل المشكلات ، ونعود مرة رابعة لبیان خصوصیة اخری؛ أي أننا روينا نفس القصة ثلاث مرات أو أربع مرات لمناسبات و أهداف مختلفة، وكان للقاری تصورات مختلفة لسرد هذه القصة المتكررة.
ثانياً: في كل سورة لا يتكرر إلا جوهر القصة، وهناك تفاصيل مختلفة ومتكاملة للقصة، مثل تقسيم قطعة اللغز (جورتشين) إلى أجزاء أصغر و متداخلة؛ أي إذا كان عذاب أمة له صفتان، قد وردت مثلاً خاصية في سورة، وسمة أخرى في سورة أخرى؛ کعذاب قوم عاد:
الذاریات، 41-42: وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ؛ مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ.
قمر، 18- 20: ... إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ؛ تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ.
الحاقة، 6: وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ.
ومن مقارنة هذه الآیات يتبين أن عذاب هذا القوم كان الريح أو الريح الشديدة وهي "العقیم" و"صرصر" و"عاتية"؛ أی مدمرة.
أو مثلا إذا كانت حادثة من قصة وردت في القرآن لها خمس ميزات، في سورة واحدة خاصيتين وفي سورة أخرى خاصية من الخاصيتين السابقتين مع خاصية جديدة وفي السورة الثالثة خاصيتين سابقتين مع ميزة واحدة جديدة وكذلك السور الأخرى حتى يتم سرد جميع خصائص الحادثة في عدة تكرارات للفقرة بحيث أنه بتلخيص الفقرات المتكررة من القصة تكتمل خصائص تلك الحادثة. ويمكن رؤية مثال على هذا الأسلوب في التعبير، على سبيل المثال، في ظروف وموقع الجبل الذي بعث فيه النبي موسى رسولا، وأيضا بشكل أكثر وضوحا في الأحداث التي وقعت في قصر فرعون عندما ذهب النبي موسى وأخيه هناك لتسليم المهمة. (المرجع: قسيس 30؛ طه 12؛ نمال 8؛ مريم 52 و...)
ثالثا: في كل مرة يتكرر جزء من القصة تضاف مراوغات و معارف واخلاقیات و أشیاء جديدة تتناسب مع أهداف السورة أو خارج السورة ومقاصدها، وهو ما يمكن ملاحظته في الآيات 28-45 من سورة المؤمنون، وخاصة الآيات 39 و40.
رابعاً: كل تكرار في النغمة و الترکیز علی نقاط مهمه، وكذلك فی طوله و کیفیته يتناسب مع سياق السورة؛ ولذلك ففي سورة تقتضي ذلك يكون طويلا وفي سورة أخرى قصيرة كما ذكرنا في سورتي يونس والمؤمنين، وتفصيل الأمر فی محله.
وخلاصة المقال أن التناسب بين السور ملحوظ في بُعدين عامين:
1. إكمال لغز (جورشين) بذكر أجزائه غير المتكررة في السور المختلفة.
2. استكمال جوانب وخصائص حادثة مّا بتقسيم هذه الخصائص والتعبير عنها في فقرات متكررة يكون تكرارها فقط في الإطار العام والمحاور الرئيسية لتلك الفقرة وليس في التفاصيل.
3-5. التفسير الجمالي عبر السورة (ورائها)
التناسب عبر السورة هو بُعد آخر في التفسير الجمالي للقرآن الكريم، يظهر في قصص القرآن بطريقة خاصة. ولنقترب الیه، يمكننا أن نعطي مثالاً على مدى ملاءمة البرامج والأفلام لشبكة الإذاعة والتلفزيون مع التقويم اليومي؛ أي أنه على سبيل المثال، بمناسبة شهر محرم الحرام، يتم بث الأفلام والمسلسلات التي تحتوي على محتوى عاشوراء، وفي بدایة السنة و ایام حفلة النوروز يتم ملاحظة نفس النسبة في عرض الأفلام. في شهر رمضان المبارك، يتم إدراج مسلسلات ذات محتوى يتناسب مع الصيام وأخلاق الصائمين وبركاته، وفي الأيام التي تسبق يوم القدس، يتم تضمين أفلام الملحمة والمقاومة في قائمة التشغيل، وبنفس الطريقة، الجهود مصنوعة لتناسب محتوى الافلام والمسلسلات والبرامج التلفزيونية والإذاعية اتباعاً لالتقويم اليومي. ونفس النسبة نجدها في المواضيع المطروحة في سور القرآن والأحداث الجارية، وكذلك في القرآن كله وزمان ومكان نزوله. على سبيل المثال، في بداية الرسالة ونشر دين الإسلام، عندما كان الرسول الكريم (ص) في حالة ضعف ظاهر ويحتاج إلى عزاء وقوة قلب، تحکی قصة الأنبياء الإلهيين وصراعهم مع الطواغیت زمانهم والانتصار عليهم والنصرة الإلهية للرسل، وعندما تتحقق الحكومة الإسلامية في المدينة المنورة تتحول إلى سرد القصص والموضوعات من أجل توجيه وتعزيز هذا المجتمع الإسلامي الوليد. ومن الواضح أن التناسب الجميل عبر السورة لا يعني بالضرورة أن كل موضوع ورد في القرآن يتناسب مع الخارج؛ ولذلك يتم أحياناً عرض بعض المواضيع والقضايا مجرداً من الأحداث الجارية في المجتمع الإسلامي.
ويمكن رؤية مثال على التفسير الجمالي عبر السورة في قصة طالوت وجالوت. هذه القصة مهمة لأنها يمكن أن توضح كيفية الجمع بين النظرة الجمالية ومسألة العابرة للزمان والعابرة للمحلية في الآيات.
المزید من التوضیح: أنّ الآيات المتعلقة بقصة طالوت وجالوت موجودة في سورة البقرة. الخطوة الأولى هي أن نفهم هذه الآيات في نفس جوّ الوحي؛ أي أننا نسأل: لماذا نزلت هذه الآيات، وهل كان لظروف المجتمع يومئذ تأثير في نزول هذه الآيات؟ وهذا سؤال نضعه أمام كل الآيات بنظرة جمالية عابرة للسورة، مع أننا نعلم أن إجابة هذا السؤال ليست إيجابية لجميع الآيات. في الآيات التي تمت مناقشتها، يظهر فحص تقريبي لزمن الوحي أن هذه الآيات نزلت لتقوية وتثقيف المسلمين الذين دخلوا للتو في قصة الغزوات و السریات. وكان عليهم أن يتعلموا الطريقة الصحيحة للتعامل مع قائدهم، وأن يعرفوا صفات القائد الجيد والجدير:
«وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ» (البقره، ٢٤٧)
فنزول هذه الآيات مناسب جداً وجميل وبليغ؛ ويعني الجمال الناتج عن مطابقة احتياجات المجتمع ووظيفة الآية وتأثيرها. والآن مع تنقیح المناط نخرج من الإطار الزمني للآية ونحرك معنى الآية في ممر الزمان والمكان. لأن القرآن " یجری کما یجری الشمس و القمر". ومن أمثلة هذه الآية الولاية المباشرة بعد النبی (ص) لأمير المؤمنين علي (ع)؛ لأننا نسأل من أكمل بعد النبي (ص) في "العلم والجسم"؟ الجواب واضح تماما؛ لأنه بحسب الروايات المتواترة كانت هذه الصفات هي أكمل الصفات في علي بن ابیطالب (ع)، لكن نسبة وجود هذه الصفات ومجموعها فيه لا يمكن مقارنتها في الأساس بغيره.
ويمكن الحفاظ على نفس المعايير التي تم الحصول عليها بمراجعة مناط حتى اليوم، ونحن نعلم أن هذين المعيارين، "المعرفة بالعمل" و"القدرة على إدارته والقيام به"، هما من المعايير الرئيسية للجدارة على الرغم من مبدأ الكفاءة أی الإيمان.
3-6. التفسير الجمالي عبر القرآن (ورائه)
ونحن نعلم أن القرآن رغم كونه عابرا للزمان والمكان، إلا أنه نزل لا محالة في زمان ومكان محددين، مما ترك أثرا في ظاهره له بعد جمالي. على سبيل المثال، على الرغم من أن هناك حسب بعض الروايات أكثر من مائة ألف نبي، إلا أن القرآن لم يذكر سوى عدد قليل منهم، وعاش معظمهم في غرب آسيا (الشرق الأوسط)، بل هناك آثار حيث وعاش بعضهم - مثل قبيلة ثمود- التي كانت تقع على طريق قوافل أهل الحجاز، وكان الناس يعرفون قصص بعضهم. هذا مما زاد من جاذبية القصص القرآنية والتعلم منها و الاعتقاد بها، وهو بُعد مهم في التفسير الجمالي للقرآن الکریم. بالإضافة إلى قصص القرآن والدراسات المقارنة مع الكتب المقدسة الأخرى، يمكن البحث في هذا الجانب ومتابعته من أمثلة وتشبيهات واستعارات ونحوها - طبعاً مع إثبات عدم إسناد المحتوى إلیهم - وهذا مجال جميل في دراسة محتوى القرآن الكريم.
والنتيجة أننا أخذنا بعين الاعتبار ستة أبعاد في التفسير الجمالي لكل سورة وآية من القرآن الكريم: الاتجاه، المنهج، الهیکل أو البنیوی ، بین السور، عبر السورة، و عبر القرآن.
4. نتائج المناقشة
1. التفسير الجمالي له نطاق واسع وأنواع عديدة ويقدم أحد أهم قرائن التفسير.
2. التفسير الجمالي والتفسير البلاغي، وعلى الرغم من شيوع في معظم المجالات، إلا أن بينهما اختلافات من جهات شتی. إن نسبة التفسير الجمالي إلى التفسير البلاغي مطلقة من حيث النظر في علم البلاغة، ومن حيث النظر في النص البلاغي الخاص والعامة.
3. الفرق بين التفسيرين الجمالي والبلاغي من وجهة نظر المفهوم: في التفسير البلاغي يكون التأثير على الجمهور هو التركيز، لکن في التفسير الجمالي فيؤخذ الجانب الفني وجمال استخدام العناصر و يعتني به؛ أي أن العنصر الجميل يخضع للتفسير البلاغي من حيث وظيفته البلاغية، ومن حيث جمالياته فإنه يخضع للتفسير الجمالي، وإن كانت النتيجة واحدة.
4. الفرق بين التفسيرين الجمالي والبلاغي من وجهة نظر تأويلية: في التفسير الجمالي لا تدخل قصدية المؤلف، أما في النص البلاغي فإن قصدية المؤلف تكون ذات أهمية، لکن فی خصوص القرآن لا يوجد هذا الاختلاف، بسبب علم الله المطلق.
5. من بين أنواع التفسير الجمالي، فإن التفسير المنهجي وتفسير ما بين السور يقع خارج نطاق التفسير البلاغي، ولكن مع نظرة وصفية إلى التفاسیر البلاغية الموجودة، يمكن إضافة التفسير منهجي، والبنیوی، و الجمالی عبر السورة، و الجمالی عبر القرآن لهذين النوعين؛ أي أن التفاسیر البلاغية الحالية تركز على الاتجاهات أكثر من الأنواع الأخرى.
6. ومن بين أنواع التفسير الجمالي، يلعب المنهجی دورا في وضع أحد أهم قرائن التفسير وأكثرها تأثيرا، والذي يمكن اعتباره من أكثر قرائن التفاسیر الموجودة إهمالا.
فهرس اهم المصادر
ابن عطیه، عبدالحق بن غالب، المحرر الوجیز فی تفسیر الکتاب العزیز، ط الاولی، بیروت: دار الكتب العلمية، منشورات محمد علي بيضون، 1422ق.
ابن فارس ، احمد بن فارس بن زکریا ، معجم مقاییس اللغة ، تحقیق عبدالسلام محمد هارون ، دفتر تبلیغات اسلامی ، قم، 1404ق.
ابنعاشور، محمدطاهر، تفسير التحرير و التنوير المعروف بتفسير ابن عاشور، ط الاولی، بيروت: مؤسسة التاريخ العربي، 1420ق.
احمدی، بابک، حقیقت و زیبایی، چ پنجم، تهران: نشر مرکز، 1380ش.
بابائی، علی اکبر و عزیزیکیا، غلامعلی، و روحانیراد، مجتبی، روششناسی تفسیر قرآن، چ اول ناشر، قم: انتشارات سمت و پژوهشگاه حوزه و دانشگاه، 1392ش.
___________، قواعد تفسیر قرآن، چ اول، سازمان سمت و پژوهشگاه حوزه و دانشگاه، 1395ش.
بوذری نژاد، یحیی، تعریف هنر و زیبایی نزد قاضی سعید قمی، 1390ش.
تولستوی، لئون، هنر چیست، ترجمه کاوه دهگان، چ چهارم، تهران: انتشارات امیرکبیر، 1352ش.
جباران، محمدرضا، زیبایی در متون اسلامی، چ اول، قم: مؤسسه بوستان کتاب، 1396ش.
جواهری، سیدمحمدحسن، اعجاز بیانی و تأثیری قرآن کریم، چ اول، تهران: پژوهشگاه فرهنگ و اندیشه اسلامی، 1398ش.
___________، روششناسی ترجمه قرآن کریم، چ ششم، قم: پژوهشگاه حوزه و دانشگاه، 1398ش.
___________، تفسیر زیباییشناختی داستان حضرت موسی ع، دستنویس (پژوهشگاه فرهنگ و اندیشه اسلامی).
درویش، محی الدین، اعراب القرآن الکریم و بیانه، ط الرابعة، سوریه: الارشاد، 1415ق.
دهخدا، علی اکبر؛ لغت نامه دهخدا؛ زیر نظر دکتر محمد معین و دکتر سید جعفر شهیدی؛ چ2، تهران: موسسه انتشارات و چاپ دانشگاه تهران، 1377.
رامین، علی، نظریههای فلسفی و جامعه شناختی در هنر، چ سوم، تهران، نشر نی، 1394ش.
الزمخشری، محمود بن عمر، الکشاف عن حقائق غوامض التنزیل و عیون الأقاویل فی وجوه التأویل، ط الثالثة، بیروت: دار الکتاب العربی، 1407ق.
سیدی، سیدحسین، زیباییشناسی آیات قرآن، چ اول، قم: پژوهشگاه علوم و فرهنگ اسلامی، 1390ش.
سیوطی، جلال الدین عبدالرحمن، التحبیر فی علم التفسیر، بیروت: دار الکتب العلمیة، 1408ق.
صالحی مازندرانی، محمدهادی بن محمد، انوار البلاغة، به کوشش محمدعلی غلامی نژاد، چ اول، تهران: میراث مکتوب، 1375ش.
الطباطبائي، السید محمد حسین، الميزان فی تفسیر القرآن، قم: انتشارات جامعه مدرسین.
الطبرسی، الفضل بن حسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، ط الثالثة، تهران: ناصر خسرو، 1372ش.
کاردگر، یحیی، فن بدیع در زبان فارسی، چ اول، تهران، صدای معاصر، 1396ش.
معین، محمد، فرهنگ فارسی، چ 27، تهران: امیرکبیر، 1391ش.
مکارم شیرازی و دیگران، تفسير نمونه، چ دهم، تهران: دار الکتب الاسلامیة، 1371ش.
میرلوحی و رضوان، «نظرة جدیدة إلی المسائل المشترکه بین النحو و البلاغة و أثرها فی الدراسات البلاغیة و النحویة»، مجلة العلوم الانسانیة الدولیة، دوره 15 شماره 3، سال 2008/ 1429ق، ص 111- 132.
شاله، فیلیسین، شناخت زیبایی، ترجمه علیاکبر بامداد، چ سوم، تهران: کتابخانه طهوری، 1347ش.
[1] . تم نشر هذه المقالة البحثیة العلمیة فی «پژوهشهای قرآنی»، عنوانه بالفارسیة «پژوهشی تطبییقی در چیستی تفاسیر زیباییشناختی و بلاغی»، رقم 106، سنه 1402، ص 25- 48.
[2] . s.javahery@gmail.com
[3] . وقد تناولنا هذا الرأي في كتاب "إعجاز العلمي" وملخصه موجود في كتاب "إعجاز القرآن ونقد الشبهات". خلاصته:
«ومعنى "النظم الاجمالی" مقابل "النظم التفصيلي" هو افتراض أن بعض إحصائيات ليست صحيحة تماما في بعض الحالات، وعلى سبيل المثال، الرقم x بحوالي 100 مرة تکرار مع الرقم y - نقيضه المفهومی - ليس بالضبط نفس 97 مرة تكرار، لكنه قريب منه، ويمكن افتراض ترتيب عام بينهما في مجموعة كبيرة نسبيا مثل القرآن، وخاصة إذا كانت هناك أمثلة كثيرة على النظام العام. الادعاء هو أنه على الرغم من أن القرآن ليس لديه ترتيب تفصيلي ودقيق من حيث الإعجاز العددي، إلا أنه یلقی بظلاله عليه ترتيب موجز واضح المعالم، وهذا الترتيب التلخيصي لا يمكن للناس العاديين أن يجدوا مثله في كتاب مثل هذا القرآن الكريم الذي تم كتابته على مر السنين وعرضه في بعض الأحيان في مناسبات مختلفة.
مزيد من التوضيح:
وفي نقد نظرية الإعجاز العددي في تكرار الکلمات، ذكر أنه يبدو أن النوع السائد من تفاعل الباحثين مع نظرية الإعجاز العددي في القرآن، ولا سيما تناسبها المعجمي، لقد کان مصحوبا بقلة من اللطف و العنایة. والحقيقة أن أولاً: جزء من هذه الإحصائيات الذی لیس بقلیل، صحيح ولم يكن هناك إنكار لها وثانياً: نفس الجزء الصادق من الإحصائيات يخبرنا عن النظام العام مقابل الترتيب التفصيلي. إذا أراد المؤلف أن يدرج هذا القدر من التناسب في كتاب يكتبه - مرة واحدة وليس على مدى سنوات عديدة - فما هو مقدار الحساب والدقة الذي يحتاجه، وهل وجدنا كتابة بهذا القدر من التناسب في الكلمات؟ والآن قم بوزن هذه النقطة بناءاً علی الآتی:
الاول: والذي جاء بالقرآن هو أمي وقد جاء بالكتاب لمدة 23 سنة.
الثانی: ولم يذكر هذه النسبة مطلقاً، ولم يرفع الحجاب عن هذه المفاجأة (طبعاً قد نعتبر "المثاني" أن يدخلها بحسب بعض التفاسير، لا سيما وفق الفقرة التالية).
الثالث: وعلى افتراض أن بعض الإحصائيات، وهي أرقام كبيرة، تكون خاطئة مع فارق بسيط، لكن أ ليست هذه النسبة كبيرة حتى مع افتراض الفارق البسيط؟
للحصول على إجابة مناسبة، نحتاج إلى إعطاء مثال. هل القرآن مسجّع؟ الجواب واضح: لا.
أليس القرآن مسجّع؟ مرة أخرى، الجواب واضح: لا!
والنتيجة التي يمكن الحصول عليها من هذين السؤالين هي أن القرآن، وإن لم يكن مسجّاً كاملاً، إلا أنه استخدمه مثل ملح الطعام، دون أن يقع في تکلّف السجع ، وبالأساس، فإن إحدى السمات الجمالية للقرآن هي هذا النوع من النظر إلى الصناعات البدیعیة. والآن نطرح هذين السؤالين حول الإعجاز العددي:
- هل يخلو القرآن من التناسب العددي من حيث الترتيب التلخيصي؟ الجواب: لا.
- هل سعى القرآن كاملا أو أقصى إلى خلق الانسجام بين كلماته: الجواب: لا.
وما هي نتيجة الجمع بين هذين السؤالين؟ إن القرآن مليء بالمفاجآت! ولكن هذا النوع من الجمال لا يجوز له أبداً أن يهيمن على وجه القرآن بحيث يصرف انتباه القارئ عن المضمون ... إذا أردنا هندسة مائة هكتار من الأرض بالأشجار، فإن مجرد رؤية الأشجار متتالية من مسافة بعيدة يكفي لتحقيق الهدف، على الرغم من أن الأشجار قد تكون على بعد 20 أو 30 سنتيمترًا خلف وأمام و وهذا القدر من الفرق لا یظهر من مسافة ثلاثة أو أربعة أمتار بين الصفوف، وكذلك الحال إذا زاد أو نقص شیئاً بالنسبة إلی عدد ليس بالقليل.